ضجة إعلامية واسعة النطاق، و استنكارات من كل حدب و صوب، و تحركات غربية و عربية..صاحبت قرار المجاهدين الطالبانيين هدم التماثيل الوثنية،و التي رأي الكثيرون فيها إراقة لدماء الحضارة الإنسانية برمتها على أرض أفغانستان دون اعتبار يذكر لغليان الشارع الهندي، و الزلزال الروحي الذي أطاح بقيم اليابانيين و عقيدتهم..
و لقد ترددت كثيرا قبل أن أكتب مقالتي هذه، و ذلك لإعجابي اللامحدود بشخصية شيخ العصر (القرضاوي)، حيث لم أتوقع رد فعله المتساهل هذا و الذي جعله يشد الرحال إلى عقر طالبان بصحبة أعلام مشايخ هذا العصر
حتى يعزفوا عن قرارهم، و لكن حميتي أبت إلا أن تثور و تعبر و تدلو بدلوها كما فعل الكثير!!
و كمدخل للقضية حتى تبدو للعيان جلية سنبحث سوية عن إجابة لهذا السؤال..ما هو تمثال بوذا؟
حقيقة..فإن كثيرا من العوام يعتقدون أن بوذا كغيره من الأوثان يعبد كإله من دون الله، و يعتقد عابدوه و مقدسوه بأن الضرر و النفع كله يصدر من ذاته، و هذا ليس بصحيح، فما عرف من خلال استقراء الوثنية أن الوثنيين
يقدسون بوذا و غيره إيمانا منهم بأنه السبيل للتقرب إلى الذات العليا التي لا تفوق قدرتها قدرة، و هذه الذات بمفهومنا الإسلامي هي الخالق جلت قدرته، و لكنهم عجزوا عن التوصل إلى كنه تلك الذات، و أصبحت عقيدتهم سطحية
لأبعد درجة حينما اعتادت عقلياتهم القاصرة رؤية شموخ بوذا، و صلابته عبر العصور، و بات الفرق بين بوذا و الذات العليا هيناً حتى أنهم تغاضوا كلية عنه أحيانا..
و ما فعلته طالبان لا تدرج دوافعه الباطنية في المفهوم الإسلامي، و يتم الحكم بناء عليها، فرجل الشارع يعتقد جازما بأن ما فعلته طالبان لعبة سياسية للفت الأنظار إليها، و أن طالبان بررت فعلتها على أساس ديني محض، و لكن
الدارج في الفقه الإسلامي أن يتم الحكم حسب ما يأتي به الظاهر، و الحكم على الباطن عند رب العالمين حين يقوم الحساب، و أنبه على ذلك لسد الذرائع التي قد تأتي ضمن هذا الباب في نقد قرارهم..
كما أنه لا يعقل ذلك الخلط الساذج بين التماثيل التي تعبد من دون الله، و تلك التي خلفتها الحضارات القديمة كنماذج من عمارتها و ثقافتها مثل أبي الهول و غيره، و مع أن الإسلام قد حرم التماثيل حتى و إن لم تكن تعبد من دون الله،
إلا أن علماء هذا العصرللأسف لم يشددوا كثيرا على ذلك بسبب عموم البلوى و استشرائها في الجسد الإسلامي، و بات ينظر إلى التماثيل كإرث حضاري و إنساني هام، و تناسى الجميع أن الإسلام أتى بحضارة لها خصوصيتها و
لا تنهج التقليد الأعمى فكان نبذ التماثيل و إدراجها في قائمة المحرمات أحد تلك الخصائص..
أما من يستفسر عن سبب عدم هدم التماثيل في الماضي فأسوق هنا عددا من الأسباب وجدتها مقنعة في ذاتها، و هي أن الفتح الإسلامي لبلاد الكفر كان يهدف في البداية إلى الدعوة و الترغيب و ليس الهدم و الترهيب، كما أنه لم تكن
الظروف و لا الإمكانيات متاحة لهدم أوثان بتلك الضخامة، كما أن من درس سيرة المصطفى عليه الصلاة و السلام يعلم يقينا كم شدد الرسول صلى الله عليه و سلم على هدمها في حادثة الطائف و فتح مكة، و رفض بصورة قاطعة
أن يبقي على أوثان و لو ليوم واحد بعد ما طلب منه أهل الطائف أن يبقيها لهم سنة إضافية، و ذلك لبقاء رواسب من التعلق بها و الحنين إليها لا تذهب بسهولة ..كل تلك الأسباب أراها من وجهة نظري كافية للرد على تلك
التساؤلات.
و في لقاء مع الشيخ القرضاوي على (قناة أبو ظبي) و الذي عارض هدم التماثيل، برر رفضه القرار بخوفه على الشعب الأفغاني من ويلات الغرب، و ثورته إذا ما هدمت التماثيل، و ذلك بما يجره ذلك عليهم من وبال الحصار،
و المقاطعة، و التجويع، و لقد تساءلت يومه بيني و نفسي إذ قلت:
هل أصبح من لا يخاف في الله لومة لائم مضطهدا إلى هذا الحد حتى من ذوي عقيدته؟ و هل هذا الصخب الإعلامي من الدول الإسلامية و تحركات مشايخ و علماء الأمة يقارن و لو بمقدار بسيط مع حادثة النفق تحت الحرم
القدسي التي تهدف صراحة إلى تقويض أركانه؟ و هل تجرأ أحد أولئك العلماء -الذين قال المصطفى عليه الصلاة و السلام فيهم أنهم ورثة الأنبياء-على قول كلمة حق واحدة عند ملوكهم و رؤساهم لعمل شيء إزاء ما يحدث
للمسلمين في فلسطين و العراق و الشيشان؟
أقول في الختام..
الله حسبنا و نعم الوكيل.