خطباء المساجد

كلما حاولت أن أؤجل الخوض في هذا الموضوع، أجد نفسي مدفوعا دفعا للحديث عنه وسبر تفاصيله..فموضوع خطباء المساجد بات من الضرورة بمكان الحديث عنه وتنبيه المجتمع المسلم إلى هذا الاستخفاف الواضح بعقول العوام..
إن احترامي لخطباء المساجد حاصل نظرا لما تكنه صدورهم من إيمان مع أننا لا ندري حقيقته، ولكن العتاب جم وطويل للغاية، فعلى مدى أربع جمع متواصلة من خلال تجربة شخصية كنت أحضر خطبة صلاة الجمعة على مضض مرير نظرا للموضوع الذي كان يطرح كخطبة جمعة والذي كان آخره يتحدث عن قصة موسى وفرعون..
نحن نؤمن تماما بالعبر التي تستخلص من خلال الحديث عن قصة مؤثرة في التاريخ الإسلامي مثلا، ولكن ليس إلى الدرجة التي يصبح فيها الموضوع قد استهلك تماما، بحيث بات السامع في ساحة المسجد يعرف أدق تفاصيل موضوع الخطبة، ولكن هذه القضية ليست هي محور حديثنا..
القضية الأساسية هي الطريقة التي يتعامل بها خطيب المسجد مع مستجدات الأحداث، وتأثيرها على الناس، حيث تجده يتحدث عن موضوع من الزمان الغابر كقصة نوح والطوفان، وبلده تعج بالمشاكل الاقتصادية والانحرافات السلوكية وضياع الإيمان الذي يهرب شيئا فشيئا في كل مرة مع تنهيدات السامعين لمثل هذه الخطب السلبية..
لقد استفزني لدرجة كبيرة ذلك الخطيب الذي كان يتحدث في خطبته عن قصة موسى وفرعون، ويدقق على تفاصيل في سرد القصة لا تسمن ولا تغني من جوع مثل الاختلاف الحاصل عن مكان صلب فرعون لمن آمن من السحرة: هل كان على جذوع النخل أو في جذوع النخل..الله أكبر..
الأمة تلهث من فساد شبابها وضياع الامانات وهتك الأعراض، وتبجح المعتدين..والخطيب في عالم آخر كأنه جاء من أرض مريخية ليس فيها قناة الجزيرة أو إذاعة مونت كارلو لتعلمه أن الشعب المسلم في انحطاط مستمر..

ولا أخاله هكذا إلا بسبب استخفاف خطباء المساجد بموضوع خطبة الجمعة، وكأنه يحفظ ما تعلمه من صباه من قصص وجمل متكررة يقضي بها وقت الخطبة ثم يصلي ويسلم ويقيم الصلاة.
لقد كان دور المسجد في عصور الدولة الإسلامية الزاهية هو المحرك الأول وخط الدفاع الأول من الشهوات والأعداء..وكانت حلقات العلم فيه تغني عن عشرات المعاهد والجامعات التي تخرج شبابا لا يعرف من كتاب الله إلا “كتب عليكم الصيام”، فيعق الوالدين وتخور قواه أمام العدو لأن القوة النفسية التي كانت تستمد من خطبة الجمعة وحلقات العلم قد خبت وتراجعت..وقد كانت في زمان -رحم الله أهله- تحرك جيوشا جرارة، وتغسل سواد القلوب على الفور فلا خلق فاسد يضرب المجتمع من الداخل ولا استكانة ذليلة تثير طمع عدو الله..
ألم يحن الأوان بعد ليتقي الخطباء ربهم فينا؟ ويقومون ولو بجزء يسير مما يمليه على المرء ضميره الحي..وحديثي لا يقتصر عن خطباء المساجد في بلدي، وإنما يتجاوزه ليضم كافة شعوبنا المسلمة..حيث أنك لو حاولت أن تستمع إلى خطبة جمعة مذاعة عبرالفضائيات في أي قطر عربي..ستتيقن تماما أنها إما موقعة بختم الحاكم، وإما مذيلة بجهل الخطيب المتعالم..فكل خطبائنا سكتوا مرة واحدة إلا من رحم ربي، والحالم الساذج الذي ينتظر صيحة حق واحدة تخرج غارق في أحلام لا تتحقق ما دام الحال هو الحال..ولكنا مع هذا الواقع المرير ولو حاولنا تقدير مواقف الخطباء التي تخشى بطش أيدي الحكام فتتفادى الحديث عن رأيها في الواقع السياسي المرير أو نقدها لتصرفات مسؤولي الدولة وتجاوزاتهم..فليس معنى هذا أن تتحجر الخطبة ويهرب بها الخطيب عن واقعه تماما..فإن محاولة إيقاظ الضمائر الغافلة وغرس القيم الفاضلة في نفوس الناس والحث على الخلق الحسن على الدوام، كل ذلك كفيل تماما بأن يعيد الامور إلى نصابها ولو بعد حين..
لا نريد أن نتطير من الغد القريب..فربما استيقظ خطباء المساجد وعرفوا دورهم الصحيح وقاموا به على أكمل وجه..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top