بقلم د. عبد الرحمن أقرع
يطل علينا الشاعر الفلسطيني سامر سكيك بعد غياب بقصيدة ليست كالأخريات، مجبولة بالألم الغزي الصارخ همسا في دوامة الصمت الذي يلف الكون الغارق في اللاوعي أو اللافعل ، وكلاهما صمتٌ مهيب.
وبعيداً عن القالب الفني للقصيدة يصر سامر سكيك أن يكون شجاعاً حتى آخر قطرة حبر ، وصادقاً حتى آعمق خلية في النخاع، فالدم المسفوح رخيصا وإن كان هو العرض الأبرز للداء في مأساوية المرحلة إلا أنه يعود حثيثا وبإصرار إلى التشخيص من الجذور لا من الغصن والأوراق فيبدأ مذكرا بمصدر الداء الذي عمَّق الجرح الفلسطيني وزاده التهابا:
في غزَّةَ أقفاصُ ديوكٍ صفراءَ وخضرا
إن تُطلقْ نحو الحريةِ
تصرع بعضا
وإذا ما تُرِكت، تدميها بومٌ
فتُمـزَّقْ
والناس حيارى لا تدري
من ألغى الآخرْ
من أطلقَ فيهم دجالا
أودى بوقارِ مليكَتِهم
سِيَّانِ اخترتَ النارَ أو الجنَّةَ
تهلكْ
الديوك الصفراء والخضراء المستمدة ألوانها الإنتخابية من الشارات الإنتخابية والرايات الحزبية للفصيلين الأكبر على الساحة واللتان تتلطخان الآن بدمٍ واحد ، من قبل البوم المنقضة بعد أن أنهكهما صراع الديكة بمجرد أن نعما بقليل من الحرية ذات يومٍ فهبطا عن أحد قبل أن ينكشف الغبار .
الناس حيارى: تسمع هذا وذاك..تميل تارة لهذا وطوراً لذاك، تسخط على هذا حينا ، وعلى ذاك أحيانا ، وتلتمس العذر لهذا قليلا ، ولذاك كثيرا ..وأمام دوي المدافع تتخافت الأصوات من جديد حتى تصل الى صمت المشهد : أمام جثامين القتلى المسجاة ..يقف عليها جندي هانئا بانتصار زائف في زمن المعادلات المقلوبة واختلال موازين القوى…مشهد صامت يكفنه الموت الا من خطى وئيدة للقتل يجوس بين الحارات البائسة ، واصطكاك وحشة الأرامل وتلفاز يشق طريقا للمقت الممجوج والمرفوض والذي لا مكان له على الساحة الغاصة بالموت والقتل والدمار ، وإن وجد مكانا فهو معيب ومرفوض
في لحظةِ صدقٍ واحدةٍ
يقفُ الجنديٌّ أمام القتلى
لم يبقَ مكانٌ للآخر
لم يبق مكانْ
والقتل يحومُ على الحاراتِ
فتنتحبُ
وعلى الشُّرْفَاتِ أراملُ
تصطكُّ بوحشتِها
والتلفازُ يشقُّ طريقا نحو المقتْ
* * *
وفي المشهد التالي لا ندري أي الجنود يقصد شاعرنا.. أيقصد الجنود من فصيلة البوم الذين تتعرى شجاعتهم الا من ورقة تكنولوجيا عسكرية متطورة تفتك بالعزل؟
أم جنود من فصيلة الديكة تخوض حربا غير متكافئة وظهرها مكشوف لتفرقها أيدي سبأ، كما كان الحال في بداية فصول المأساة في النصف الأول للقرن الماضي عندما كان بعض المتحمسين يخرجون لقتال جيش الإنتداب البريطاني بطريقة تسمى (الفزيع) والتي هي البديل العامي للنفير فيحدث أن يتشرذم شباب كل عشيرة او قبيلة لملاقاة العدو على حدة ربنا استئثارا بالمجد الناجم عن الملاقاة رغم ما لرص الصفوف من مآثر ومكاسب إن لم تجلب نصرا فهي على الأقل تقلل من فداحة الهزيمة:في لحظةِ صدقٍ واحدةٍ
يتعرى الجنديُّ وينكمشُ
ويسارعُ باللغْوِ
يداري سوأتـَهُ
ينسَلُّ عن الذاتِ
ويروي بلسانِ الشاهِ جدارتــَهُ
لكنَّ حماقتـَهُ
عنوانٌ للصحفِ الكبرى..
* * *
وهنا…يتجلى الصدق أكثر وأكثر ، كلما أزدادت قتامة المشهد ، فرحم الذكرى لا يتمخض عن المجد..ولا أظنه الا أراد قولا: (وهل تكفي الذكرى)؟ وهل يجدي التنبيش في الذاكرة عن زمن التلاقي والتوحد
في لحظةِ صدقٍ واحدةٍ
قد ينصاعُ لذاكرتِه
كان يرابطُ تحت القصفْ
يقنصُ عفريتاً
ويغني للمجدِ القادمْ
وأخوهُ على ثغرٍ ثانٍ
يحلم مثله بالقادمْ
لكنَّ الذكرى لا تلدُ المجدَ
بل الآخرْ
* * *
وهنا في المشهد الذي يليه يحق للمتسائل الذعر فالخطب جلل ، والموت سيد الموقف ، والدمار والتتبير عنوان المرحلة ، و(يا وحدنا) هو النشيد العام:في لحظةِ صدقٍ واحدةٍ
قد يسألُ نفسهُ مذعورا
أتراكَ عَقِلتَ وقلتَ:
ضللتُ وعدت
أتراك وَقَنْتَ بأن أخاك
أخٌ لك أنتْ
وبأن عدوَّكَ لن يخشاكْ
ما دمتَ وحيداً
دون سواكْ..
وأخوكَ بعيدا
ما زال هناكْ
* * *
وهنا …يلمح شاعرنا المبدع لحتمية التصالح مع الذات من كلا (الديكين) الذبيحين ، أولا قبل التصالح مع الآخر وفي جوٍ روحاني بشهادة الرحمان في كنف المساجد حيث يحق البكاء على خطيئة الإقتتال متلواً بالصلاة والتنسك..التنسك الذي يزيل ضبابية الصورة ، وييعيد رسم ملامح النهج والطريق الذي لن يكتمل الا بنقطة التقاء مع الآخر الذي هو منه ومنه هو..آنذاك قد يُغسَلَ عبوس البحر ويطل من جديد وضاءً بابتسام.في لحظةِ صدقٍ واحدةٍ
قد تذهبُ للمسجدِ ليلاً
وهناك ستبكي
لا تلعنْ نفسكْ
بل صلِّ وسلم
وتنسَّك
واعقَل
وتوكل
واذهب لأخيكَ
وقل أنَا منكْ
وزُرِ البحرَ العابسَ
منذ الشرْخِ
تجدْه تبسَّمْ
فنيا : تزخر القصيدة بجداريات شتى منها:
جدارية الديكة الحبيسة بألوانها الخضراء والصفراء، تقتل إن تُطلق، وينقض عليها البوم إن تترك
وجدارية الموت الذي يجوس بين الحارات ، والأرامل التي تصطك لبرد الوحشة
والجندي الذي يداري سوأته باللغو
والتلفاز الشاق طريقاً للمقت
والبحر العابس منذ الشرخ يبتسم لتلاقي الأخوين المأمول..و..و
وطالما جعل المهندس سامر الصدق عنوان اللحظة فسأصدقه القول بوجود هنة عروضية في قوله:
يقنصُ عفريتاً
ولو جعلها (يقنُصُ عفريتا ) لكان أحصف للإيقاع.
ولا أخفيه كذلك وجود ثقل في قوله:قد يسألُ نفسهُ مذعورا
وكم وددتُ لو كنت مخطئا .
باختصارٍ شديد: قصيدة رائعة المبنى والمعنى والمغنى تنساب على بحر المحدث ممتعة أرواحنا التي تواصل الإستماع للحن الجنائزي المعزوف نهارا وليلا قاتلا في دواخلنا كل ملامح الفرح التي كان ينبغي أن ترافق الأعياد الكثيرة التي مرت …بيد أنه قدر الله الذي لا نملك له ردا..والخيرة دوما فيما اختار الله.
(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم)