“يجب أن نعيد قراءة و تفسير القرآن بأعين هذا العصر و ليس بأعين قبل ألف عام” هذه المقولة سمعتها أكثر من مرة كان آخرها على لسان د.عبد الرحمن بسبسو الناقد و الكاتب العربي الفلسطيني، و الذي كان يحاضر فينا في ندوة حول أدب الأطفال، و لم أعرف أنه علماني إلا بعد أن أعلنها صراحة في نهاية حديثه إلينا..
جريئة جدا هذه المقولة..هذا أول ما تبادر إلى ذهني حينما سمعتها مع الآخرين..و بعد تحليلها بصورة أعمق اكتشفت أنها خطيرة للغاية، خصوصا حينما تصدر من أناس ذاع صيتهم في مجال الأدب و الفكر، و لهم تأثير
عجيب على العوام من الناس حتى طبقة المثقفين..
و لعلي اعتبرت هذه المقولة حينها دعوة مفتوحة و صريحة لهدم و تهميش كل الإرث الثقافي و التاريخي الذي تناقلته أجيال هذه الأمة منذ بداية الدعوة المحمدية، في إطار الاعتقاد بأن هذا العصر الذي نحياه بات بحاجة إلى تغيير
سريع في صلب العقيدة حتى يستطيع ذووها التفاعل و الانخراط في النشاطات المجتمعية المختلفة بصورة أكثر انسيابية و يسر..
وأعتقد أن كلنا يعلم مقولة السلف “لا اجتهاد مع نص” و التي خاض فيها د.مصطفى محمود خوضا مثيرا للجدل، و إن كنت ما زلت على الحياد فلا أعارض أو أؤيد ما دامت الأمور لم تزل غير واضحة المعالم..فما أكثرها
الشبهات في هذا العصر ، و ما أكثر الخائضين فيها و الخائضات دون حدود، و كأن النبي صلى الله عليه و سلم قد اطلع على الغيب و علم مسبقا ما سيؤول إليه حال الأمة كما هو حاصل اليوم إذ قال ” فمن اتقى الشبهات فقد
استبرأ لدينه و عرضه”، و من هنا وجدت قاعدة صلبة بنيت عليها تصوري و وجهة نظري في هذه المسألة المخيفة..
فإذا كنا على يقين بأن هذا القرآن صالح لكل زمان و مكان، و لم نختلف في هذه القضية، تبقى المسألة محصورة في فهم هذا القرآن و هو الأمر الذي يعول عليه أمثال د. بسيسو ، بقولهم أن تفسير القرآن يجب أن يتماشى مع واقع
هذا العصر و احتياجات الأمة الإسلامية و وضعها بين دول العالم..
انظروا معي و تأملوا جيدا في هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء:
“و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا” ، إن المتأمل لهذه الآية من غير ذوي الاختصاص في علم تفسير القرآن يفسرها بشكل سطحي تماشيا مع تسلسل الألفاظ و البنية التركيبية
للآية، فيؤيد “الجبرية” من خلال تفسيره، حيث يقول بأن الله جل و علا إذا أراد أن يهلك قوما فإنه يأمر الأغنياء و ذوي النفوذ في ذلك القوم أن يخرجوا على حدود الله حتى تتحقق الذريعة المناسبة للقضاء على قومهم..
هذه هي نظرة المتأمل العادي الذي سيؤكد قضية جبرية الإنسان و أنه مساق في هذه الدنيا كما حدد له لا اختيار أمامه..و هذا هو السخف بعينه يا من تنادون بتفسير القرآن حسب أهوائكم..
لذلك نجد أنفسنا في حاجة إلى الرجوع لكتب التفسير أو علمائه حتى لا يكون هناك مجال لأي لبس من أي نوع..فيكون تفسير الآية تبعا للنص القرآني حسب كتب التفاسير كالآتي:
أن الله تعالى أمر أغنياء القوم بالطاعة و اتباع منهج الله و لكنهم فسقوا و بغوا في الأرض فكان ذلك سببا في هلاكهم و تدميرهم..هل لاحظت الفرق في التفسيرين؟؟
المسألة في ذلك محسومة..من فسر الآية تبعا لهواه و ثقافته الضحلة في مجال تفسير القرآن يفسرها كما جاء سالفا..و من يفسرها تبعا لدراسة و إيمان و اختصاص يفسرها كما جاء في كل كتب التفاسير..جرب و
سترى..
و تبقى المسألة خلافية في الآيات القرآنية التي لم يتم تناول تفسيرها في السنة النبوية، حيث يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وهنا نتوقف قليلا..فالاجتهاد لا بد أن يراعى فيه طبيعة العصر الذي نحياه، و أعتقد أنه من السذاجة
بمكان أن نقيس على قضايا تسبق عصرنا بأكثر من عشرة قرون، و لا ينسى أحدنا في سياق حديثنا أننا بحاجة ماسة إلى الدعوة و الترغيب في هذا الدين، بدلا من التزمت الشديد من قبل البعض والذي أدى إلى نفور جموع هائلة من
الناس و خصوصا فئة الشباب بسبب العقليات المتحجرة ..
لذلك أقول أن مسألة النظر في إعادة تفسير بعض و ليس جل آيات القرآن مع مراعاة أحوال هذا العصر و النشاطات الحياتية فيه، بحاجة إلى البت فيها من قبل مؤتمر إسلامي عام يجمع كل الثقات من المفكرين الإسلاميين و ذوي
الأهلية في هذه الأمة و على رأسهم شيخ الميسرين الدكتور القرضاوي، للتدارس ثم البت في هذه المسألة المصيرية، لوضع حد لهذا العبث في تفكيرنا و الذي بات يهز و يهدد عقيدتنا بصورة كبيرة ليزيدها من بعد ضعفها ضعفا..